نسبه وقبيلته: هو أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني.
قال ابن الأثير: ليس في العرب أعز دارًا ولا أمنع جارًا ولا أكثر خلقًا من شيبان.
وكان في قبيلة شيبان الكثير من القادة والعلماء والأدباء والشعراء، فالإمام أحمد عربي أصيل ينتمي إلى هذه القبيلة.
وهي قبيلةٌ ربعيةٌ عدنانيةٌ تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان.
وكان الإمام أحمد - رحمه الله - رجلًا طوالًا رقيقًا أسمر اللون كثير التواضع.
مولــــــــــده:
ولد سنة 164هـ الموافق 780م.
البلد التي ولد فيها:
بغداد
البلد التي عاش فيها:
عاش الإمام أحمد رحمه الله في بغداد، ولكنه تنقّل بين كثير من البلاد طلبًا للعلم حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة و الحجاز واليمن والعراق وفارس و خراسان والجبال والأطراف والثغور...
طفولته وتربيته:
نشأ أحمد بن حنبل يتيمًا، وكسائر أترابه تعلم القرآن في صغره وتلاه تلاوة جيدة وحفظه عن ظهر قلب.
وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره، بدأ يطلب العلم، وأول من طلب العلم عليه هو الإمام أبو يوسف القاضي، والإمام أبو يوسف كما هو معلوم من أئمة الرأي مع كونه محدِّثًا.
ولكن في البداية وبعد مرور فترة له مع أبي يوسف.
وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب الحديث أكثر، فتحوّل إلى مجالس الحديث وأعجبه هذا النهج واتفق مع صلاحه وورعه وتقواه.
وأخذ يجول ويرحل في سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة و الحجاز واليمن والعراق وفارس و خراسان والجبال والأطراف والثغور... وهذا فقط في مرحلته الأولى من حياته.
ولقد التقى الشافعي في أول رحلة من رحلاته الحجازية في الحرم، و أُعجِبَ به وظلّ الإمام أحمد أربعين سنة ما ييبت ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي.
وكان يقول عندما يروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله يبعث على رأس كل أمَّة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها - كان يقول -: لقد أرسل الله تعالى سيدنا عمر بن عبد العزيز يجدد لهذه الأمة دينها على رأس المائة الثانية وآمل أن يكون الشافعي على رأس المئة الثالثة.
وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس فلم يوفَّق للقائه وكان يقول: لقد حُرِمتُ لقاء مالك فعوَّضني الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة...
أهم ملامح شخصيته وأخلاقه:
ورعه وتقواه وتعففه:
من عظيم ما عُرِفَ به الإمام أحمد تعففه، وله في ذلك قصص رائعة، فقد كان يسترزق بأدنى عمل وكان يرفض أن يأخذ من صديق ولا شيخ ولا حاكم قرضًا أو هبة أو إرثًا لأحد يؤثره به.
وقد يقبل هدية ولكنه يعجل في إعطاء من أهداه هدية مثلها أو خيرًا منها، رافعًا بذلك شأن العلم و العلماء، ولقد أجمعت الأمَّة على صلاحه وكان مضرب مَثَلٍ في الصلاح والتقوى حتى أنَّ بعض العلماء.
قال: لو أنَّ أحدًا قال: إنَّ الإمام أحمد هو من أهل الجنة لم يحنث ولم يتألّى على الله تعالى، ودليلهم على ذلك إجماع أهل العراق والشام وغيرهم على هذا الأمر والإجماع حجة وإجماع الأمة على هذا الأمر إنما كان بعد مماته.
وقد صنف الإمام في الزهد كتابًا عظيمًا، أغلب الظن - كما قال الحافظ الإمام ابن كثير - أنه كان يأخذ بما أمكنه منه.
قال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس آخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط، وقال مرة لابنه صالح: إذا لم يكن عندي قطعةُ - يعني من المال - أفرح!
وقال: ما أعدلُ الفقر شيئًا، وصدق - رحمه الله - إذ صبر على الفقر طول عمره.
وكان رحمه الله عفيفًا، لا يرضى أن يأخذ شيئًا من أحد على شدة حاجة: رهن نعله مرةً عند خبازٍ ليأكل، وأكرى نفسه - أي: اشتغل أجيرًا - عند ناس من الجمّالين، ونسخ بالأجرة، وأبى أن يأخذ مالًا، لا قرضًا، ولا هدية، من شيخه الإمام عبدالرزاق.
ثبات الإمام رغم المحنة:
كان الإمام أحمد على موعد مع المحنة التي تحملها في شجاعة، ورفض الخضوع والتنازل في القول بمسألة عمّ البلاء بها، وحمل الخليفة المأمون الناس على قبولها قسرًا وقهرًا دون دليل أو بيّنة.
وتفاصيل تلك المحنة أن المأمون أعلن في سنة (218هـ الموافق 833م) دعوته إلى القول بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات، وحمل الفقهاء على قبولها، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب، فامتثلوا؛ خوفًا ورهبًا.
وامتنع أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة، فكُبّلا بالحديد، وبُعث بهما إلى بغداد إلى المأمون الذي كان في طرسوس، لينظر في أمرهما، غير أنه توفي وهما في طريقهما إليه، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد.
وفي طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة، بعد أن أوصى رفيقه بقوله: "أنت رجل يُقتدى به، وقد مدّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتق الله واثبت لأمر الله.
وكان الإمام أحمد عند حسن الظن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام.
وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه على حمل الناس على القول بخلق القرآن، واتُّخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب.
ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له: ما تقول في القرآن؟ فيجيب: هو كلام الله، فيقولون له: أمخلوق هو؟ فيجيب: هو كلام الله، ولا يزيد على ذلك.
ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارًا، فلما أيسوا منه علّقوه من عقبيه.
وراحوا يضربونه بالسياط دون أن يستشعر واحد منهم بالخجل وهو يضرب إنسانًا لم يقترف جرمًا أو ينتهك عرضًا أو أصاب ذنبًا، فما بالك وهم يضربون إمامًا فقيهًا ومحدثًا ورعًا، يأتمّ به الناس ويقتدون به.
ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليطة، حتى أغمي عليه.
ثم أُطلق سراحه، وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227-232هـ الموافق 841-846م).
لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ الموافق 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، ورد للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.[أحمد بن حنبل ـ محمد أبو زهرة].
شيوخــــــــــــــه:
شيم، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى القطان، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن علية،وعلي بن هاشم ابن البريد، ومعتمر بن سليمان، وعمر بن محمد ابن أخت الثوري، ويحيى بن سليم الطائفي، وغندر، وبشر بن المفضل، وزياد البكائي، وأبو بكر بن عياش، وأبو خالد الأحمر، وعباد بن عباد المهلبي، وعباد بن العوام، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي، وعمر بن عبيد الطنافسي، والمطلب بن زياد، ويحيى بن أبي زائدة، والقاضي أبو يوسف، ووكيع، وابن نمير، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، والشافعي وغيرهم...
تلاميــــــــــــذه:
البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن بقي بواسطة، والبخاري وداود أيضًا بواسطة، وابناه صالح، وعبد الله، وشيوخه عبد الرزاق، والحسن بن موسى الأشيب...
ومن تلاميذه أيضًا أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروزي الفقيه، أحد الأعلام وأجلّ أصحاب الإمام أحمد بن حنبل.
وكان أبوه خوارزميًا وأمه مروزية، حمل عن أحمد علمًا كثيرًا ولزمه إلى أن مات، وصنّف في الحديث والسنّة والفقه وهو الذي تولى غماض أحمد بن حنبل وغسله.
من مؤلفاتـــــــه:
كتاب المسند وهو أكبر داووين السنة المطهرة حيث يحوي أربعين ألفًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، انتقاها الإمام أحمد من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث.
وله من الكتب أيضًا كتاب الأشربة، وكتاب الزهد، وكتاب فضائل الصحابة، وكتاب المسائل، وكتاب الصلاة وما يلزم فيها، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب العلل، وكتاب السنن في الفقه...
وعن أبي زرعة قال: حزر كتب أحمد يوم مات فكانت اثني عشر حملًا...
منهجه العلمي:
اشتُهِرَ الإمام أحمد أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه مع أنه كان إمامًا في كليهما. ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط وذلك لأنه كان محدِّث عصره.
وقد جُمِعَ له من الأحاديث ما لم يجتمع لغيره، فقد كتب مسنده من أصل سبعمائة وخمسين ألف حديثز
وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور، فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل صحابيًا كان أو تابعيًا أو إمامًا.
وإذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحدًا من هذه الأقوال وقد لا يترجَّح عنده قول صحابي على الآخر فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولين...
وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحد ربه بالقياس أو بالرأي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي "، ويقول في الحج: " خذوا عني مناسككم ".
وكان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على عباده وهذا الحق لا يجوز مطلقًا أن يتساهل أو يتهاون فيه.
أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة و الصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير.
مثال ذلك: "الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص "، بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.
وكان شديد الورع في الفتاوى وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث فإذا رأى أحدًا يكتب عنه الفتاوى.
نهاه وقال له: "لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغير فتواي فأين أجدك لأخبرك؟.
و لما علم الله تعالى صدق نيته وقصده قيَّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه وقد كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة. ولقد أخذ بمبدأ الإستصحاب كما أخذ بالأحاديث المرسلة.
ما قيل عنه:
قيل لأبي زرعة: مَنْ رأيتَ مِن المشايخ المحدثين أحفظ؟ فقال: أحمد بن حنبل حزرت كتبه اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر حملا وعدلا ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان ولا في بطنه حديث فلان وكل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه.
وعن ابراهيم الحربي قال: رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء.
وعن أحمد بن سنان قال: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيما منه لأحمد بن حنبل ولا رأيته أكرم أحدًا كرامته لأحمد بن حنبل وكان يقعد إلى جنبه إذا حدثنا وكان يوقره ولا يمازحه، ومرض أحمد فركب إليه فعاده.
قال ابن الجوزي: كانت مخايل النجابة تظهر من أحمد رضي الله عنه من زمان الصبا.
وكان حفظه للعلم من ذلك الزمان غزيرا وعمله به متوفرًا، فلذلك كان مشايخه يعظمونه فكان إسماعيل بن علية يقدمه وقت الصلاة يصلي بهم وضحك أصحابه يومًا فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل؟.
وقال عبد الرزاق: ما رأيت افقه ولا أورع من أحمد بن حنبل.
وقال وكيع وحفص بن غياث: ما قدم الكوفة مثل أحمد بن حنبل.
وقال أبو الوليد الطيالسي: ما بالمصرين احد احب الي من أحمد بن حنبل.
وكان ابن مهدي يقول: ما نظرت إليه الا ذكرت به سفيان الثوري ولقد كاد هذا الغلام أن يكون إمامًا في بطن أمه.
وقال يحيى بن سعيد: ما قدم عليَّ مثل أحمد بن حنبل.
وقال أبو عاصم النبيل وقد ذكر طلاب العلم فقال: ما رأينا في القوم مثل أحمد بن حنبل
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبا زرعة يقول: كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقلت له: وما يدريك؟ فقال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب...
وفاتـــــــــــــــــه:
توفي في بغداد سنة 241 هـ الموافق 855 م، وقد استكمل سبعًا وسبعين سنة.
قال المروزي: مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين ومرض تسعة أيام وتسامع الناس فأقبلوا لعيادته ولزموا الباب الليل والنهار يبيتون.
فربما أذن للناس فيدخلون أفواجا يسلّمون عليه فيرد عليهم بيده.
وقال أبو عبد الله: جاءني حاجب لابن طاهر فقال: إن الأمير يقرئك السلام وهو يشتهي أن يراك فقلت له: هذا مما أكره وأمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره.
ووضّأته فقال: خلل الأصابع، فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتى ملأوا السكك والشوارع فلما كان صدر النهار قبض رحمه الله فصاح الناس وعلت الاصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت.
وعن حنبل قال: أعطى بعض ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله وهو في الحبس ثلاث شعرات.
فقال: هذا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فأوصى أبو عبد الله عند موته أن يجعل على كل عينٍ شعرة، وشعرة على لسانه ففعل ذلك به بعد موته.
وعن صالح بن أحمد قال: قال لي أبي: جئني بالكتاب الذي فيه حديث بن إدريس عن ليث عن طاووس أنه كان يكره الأنين فقرأته عليه فلم يئن إلا في الليلة التي مات فيها.
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لحييه فجعل يعرق ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده هكذا لا بعد لا بعد.
ففعل هذا مرة وثانية، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبة أي شيء هذا قد لهجت به في هذا الوقت تعرق حتى نقول قد قضيت ثم تعود فتقول لا بعد لا بعد.
فقال لي: يا بني ما تدري ما قلت؟ قلت: ل،فقال: إبليس لعنه الله قائم حدائي عاض على أنامله يقول لي: يا أحمد فُتَنّي فأقول: لا بعد، لا بعد حتى أموت.
وعن بنان بن أحمد القصباني أنه حضر جنازة أحمد بن حنبل فيمن حضر قال: فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة وحزر من حضرها من الرجال ثمانمائة ألف ومن النساء ستين ألف امرأة.
رحم الله الإمام أحمد بن حنبل رحمةً واسعةً وأسكنَه فسيح جناته.
المصدر: موقع قصة الإسلام